فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعالبي:

ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة.
وهذا هو الصوابُ، وإِنَّما هي مخصَّصة، وذلك أنَّ قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} معناه: بما هو في وُسْعكم، وتحْتَ كَسْبِكُم، وذلك استصحابُ المعتقد، والفِكْر فيه، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ، أشفَقَ الصحابةُ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى، وخصَّصَها، ونصَّ على حُكْمِهِ؛ أنه لا يكلِّف نفْسًا إِلا وسْعَهَا، والخواطرُ ليْسَتْ هي، ولا دفعُهَا في الوُسْع، بل هي أمر غالبٌ، وليست مما يُكْسَبُ، ولا يُكْتَسَبُ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ، وكَشْفُ كربهم، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ؛ أن الآية خَبَرٌ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة، حِينَ فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم: «قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا»، يجيء منْه: الأمر بأن يبنُوا على هذا، ويلتزموه، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران، فإِذا قرّر هذا الحكم، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 65]، فهذا لفظه الخَبَرُ، ولكنَّ معناه: التزموا هذا، وابنوا عليه، واصبروا بحَسَبِهِ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وللعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَمّ بسيئة فلم يعملها كتُبت له حسنة». وقوله: {إن الله تجاوز لأمَّتِي عمّا حدثتْها به أنفُسها} أقوال.
وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما لصحيح مسلم: وهو مع زيادة بيان أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطرِ وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عَزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أوْ لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتَّب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأنَّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارًا لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث: «من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنةً» وإن رجع لمانعٍ قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان.
أي إنّ قوله تعالى: {يحاسبكم به الله} محمول على معنى يجازيكم وأنّه مُجمل تُبَيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإنّ من سمَّى ذلك نسخًا من السلف فإنّما جرى على تسميةٍ سبقتْ ضَبطَ المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنّ هذه الآية نُسِخت بالتي بعدها أي بقوله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286] كما سيأتي هنالك.
وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المُبْدَى والمُحْفَى، كما هو بيّن. اهـ.

.قال محمد بن أبى بكر الرازي:

إنه تعالى أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة، فهو يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وأخفوا ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك، ثم يغفر لمن يشاء فضلا ويعذب من يشاء عدلا كما أخبر في الآية. اهـ.

.قال الألوسي:

{يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} أي يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافًا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا: إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] لأنا نقول: المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضًا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله:
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ** فخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزم كلها رفعت ** سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

فالآية على ما قررنا محكمة، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجًا بما أخرجه أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قلبكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها {آمن الرسول} [البقرة: 285] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الخ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر {إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} قال: نسختها الآية التي بعدها، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه، ويكون الحديث إخبارًا عما كان بعد النسخ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني.
ومن هنا قال الطبرسي: وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفًا، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره؛ وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازًا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا} [البقرة: 109] كأنه قيل: كيف يحمل {مَا فِي أَنفُسِكُمْ} على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال: «أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضها وأخطأت بعضها» ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى، وقيل: معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول إلى قولنا أن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرًا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك يحاسبكم به الله وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال: نزلت في الشهادة، وقيل: الآية على ظاهرها، و{مَا فِي أَنفُسِكُمْ} على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى {يُحَاسِبْكُم} يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلوا عن نظر فتدبر.
وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب. اهـ.

.قال البيضاوي:

{يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يوم القيامة. وهو حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض. اهـ.

.قال أبو السعود:

وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديمُ الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله عز وجل: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا في صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} فلِما أن المعلَّق بما في أنفسهم هاهنا هو المحاسبة، والأصلُ فيها الأعمالُ البادية، وأما العلمُ فتعلُّقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية، كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته متعالٍ عن أن يكون بطريق حصول الصور، بل وجودُ كل شيءٍ في نفسه في أيّ طور كان علمٌ بالنسبة إليه تعالى وفي هذا لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة الإبداء إذ ما من شيء يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمَرٌ في النفس فتعلقُ علمِه تعالى بحالته الأولى متقدمٌ على تعلّقه بحالته الثانية. اهـ.

.قال الفخر:

الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب، والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب، وقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} رفع للقطع واحد من الأمرين، فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيبًا للمؤمن يرثه المذنب بأعماله. اهـ.
وقال الفخر:
قرأ عاصم وابن عامر {فَيَغْفِرُ يُعَذّبُ} برفع الراء والباء، وأما الباقون فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف، والتقدير: فهو يغفر، وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} قال صاحب الكشاف: إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب، وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية. اهـ.

.قال القرطبي:

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي {فَيَغْفِرْ} {وَيُعَذِّبْ} بالجزم عطف على الجواب.
وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع فيهما على القطع، أي فهو يغفُر ويعذبُ.
وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدرِيّ بالنصب فيهما على إضمار أن.
وحقيقته أنه عطف على المعنى؛ كما في قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} وقد تقدم.
والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة؛ كما قال الشاعر:
ومتى مايَعِ منك كلامًا ** يَتَكَلّم فيُجِبْك بعقْلِ

قال النحاس: وروي عن طلحة بن مُصَرِّف {يحاسبكم به الله يغفر} بغير فاء على البدل.
ابن عطية: وبها قرأ الجُعْفِيّ وخلاّد.
ورُوي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود.
قال ابن جنِّي: هي على البدل من {يحاسبكم} وهي تفسير المحاسبة؛ وهذا كقول الشاعر:
رُوَيْدًا بَنِي شَيْبَانَ بَعْضَ وعِيدِكم ** تُلاقُوا غَدًا خِيلي على سَفَوانِ

تُلاقُوا جيادًا لا تَحِيد عن الوغى ** إذا ما غَدَتْ فِي المأزَق المْتَدَاني

فهذا على البدل.
وكرر الشاعر الفعل؛ لأن الفائدة فيما يليه من القول.
قال النحاس: وأجود من الجزم لو كان بلا فاءٍ الرفعُ، يكون في موضع الحال؛ كما قال الشاعر:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُوا إلى ضَوْء نارِهِ ** تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِندَهَا خَيْرُ مُوقِدِ